أخلاق ليست للتصدير ... !
ألقى الزبون نظرَة أخيرة على المرآة ليتأكّدَ أنّ الحلاقَة كانت جيدة , و أنّ ذقنَه قد رُسمَ بعنايَة , و أنّه أكثر وسامَةً هذا المساء , ثمّ أخرجَ حافظَةَ نقودِه , فتحها و مَرّرَ أصابِعَه في أدراجِها , لكنّه لم يَجدْ أوراقًا نقديّة . عَبِثتْ بملامحِهِ الدهشَةُ فكرّرَ المحاولَةَ كرّةً أخرى ؛ و عندما تأكّدَ أنّ حافظتَه لا تحملُ في أحشائِها أجنّةً منْ ورقٍ , اقتربَ من الحلاقِ و همسَ في أذنِه :
_ خمسُ دقائق فقط , و أحضرُ العشرة ريالات من مكينة الصرفِ الآلي .. لا شيء أكثر من ذلك .
مطّ شفتيهِ و قال :
_ حسنًا .
قبلَ عشرينَ عامًا جاء منْ لاهور ليعملَ حلاقًا في كشكٍ صغير , ليسَ ضخمًا كأبناء جلدتِه , و المسافَة بينَه و بينَ الأرضِ تريحهُ إذا همّ بالانحناء ليلتقط شيئا ما . عيناهُ غائرتان و تجاعيدُه تشقّ وجهه الأسمر كشقوقٍ في جدارٍ طينيٍّ . يحلقُ لزبائنه على أنغامِ موسيقى باكستانية , يتمايَل معَها كأنّه يرواغُ غربتَه القاسية . . غُربَةٌ حاذِقَةٌ إنْ أفلتَ منْها مرَّةً أمسَكتْ بتلابيبِه مراتٍ .
بابتسامَة , أشارَ لي بالجلوسِ على الكرسيّ . جلسْتُ مُسْتسلِمًا لكفّيْنِ خشنتيْن , واحدَة تضعُ كريم الحلاقَة على عارضيّ و الأخرى تغمسُ الفرشاة في ماءٍ حارّ ثمّ ترسمُ بها دوائِرَ في وجهي . مَرّرَ شفرتَه بعنايَة فائِقَة ثمَ توقّفَ فجأة , نظرَ إليّ في المرآة , و قال بتنهّدٍ يحرقُ كلماتِه :
_ عشرون عامًا لمْ يرجع إلا القليل .. ستة .. خمسة .. و ربّما أقل .
أكملَ تمريرَ شفرتِه قبلَ أنْ يُضيفَ :
_ و آلة الصرفِ ليستْ بعيدَة .
تعاطفْتُ مَعهُ و قلت :
_ اقبضْ ثمنَ الحلاقَة قبل أنْ تخرجَ مقصّك منْ غِمدِه .
_ أستحي .
_ لكنّ إنْ ظلَلْتَ هكذا سيحلقون بالمجّان .
_ لا يُهم , إنّها عشرَة ريالات فقط .. الله كريم .
لمْ أقلْ شيئًا , أكبرتُ هذا الرجل , و تذكّرتُ كيفَ أنّ عاملَ محطّة الوقود طلبَ منّي ذاتَ مَرّة أنْ أدفعَ الحساب مُقدّمًا . لا بدّ أنّه عَبّأ بالمجّانِ أكثرَ منْ مرّة , و لا بدّ أنّهم أوهموه أنّ ماكينة الصرفِ الآلي قريبَة .
ابتعدَ خطوَةً و صوّبَ نظرَه على ذقني ليتأكّدَ أنّه رسمَهُ بعنايَة , وضعَ لمساتِهِ الأخيرَة و قال : " نعيمًا " .
شكرتُه , و نظرتُ إلى المرآة لأتيقّن أنني أكثر وسامَةً هذا المساء . اقتربْتُ مِنْه و همسْتُ في أذنِهِ مازحًا :
_ فقط خمسُ دقائق , و ستكونُ أجرةُ الحلاقَة بينَ يديك .. أنت تعلم , مكينة الصرف الآلي قريبة ..
رَدّ بمشاعرَ مختلطَة من الجديّة و البراءَة و اليأس :
_ ألنْ تخرجَ حافظَةَ نقودِكَ و تُفتّشَها ؟!